آن الأوان لإعلان النصر والانسحاب من سياسة التخفيف
خلال الفترة الممتدة من فشل بنك ليمان براذرز في أيلول (سبتمبر) 2008 إلى آذار (مارس) 2009، هوت أسعار الموجودات في الأسواق المالية، وأحجام التجارة العالمية، والثقة، والناتج الحقيقي بشكل أسرع مما هوت به عام 1929.
ومنذ ذلك الوقت كان هناك تعاف أشبه بالمعجزة في أسواق المال، وفي الثقة، واستقرار وتعاف أوّلي في التجارة والناتج. وتزامنت نقطة التحول هذه مع التبني الجريء لسياسة التخفيف الكمي، خاصة في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. أكثر التفسيرات شيوعاً لهذا التعافي في الأسواق المالية، هو أنه كان نتيجة لتوفير سيولة غزيرة. والسيولة هي بالضبط ما تولده سياسة التخفيف الكمي.
غير أن التخفيف الكمي لم يعمل كما توقع كثيرون في البداية. وهناك نظرية ميتة الآن، تتعلق بعرض النقود، ترى أن على البنك المركزي أن يضبط هذا الوضع بالعمل على تعديل قاعدة الاحتياطي الخاص بالنظام المصرفي. فقد كان من المتوقع أن تحتفظ البنوك بقدر ثابت على نحو معقول من معدل «الاحتياطيات إلى الأصول/الودائع»، بحيث أنه إذا أرادت السلطات أن ترفع قاعدة احتياطيها، وبصورة أساسية ودائعها لدى البنك المركزي، فينبغي عندها أن ترتفع نسبة إجمالي الأصول إلى الودائع بالمستوى نفسه.
ولأن نسبة إجمالي الأصول إلى الودائع عادة ما تكون مضاعفاً كبيراً، لنقل إنها تزيد 25 ضعفاً أو أكثر على قاعدة الاحتياطي، كان يبدو أن هذه العلاقة تمَكِّن البنك المركزي من تعديل نسبة إجمالي الأصول إلى الودائع داخل البنوك بمضاعف لعملياتها السوقية المفتوحة في سبيل التأثير على قاعدة الاحتياطي، أي «مضاعف النقود»، وهو الاسم الذي كانت تعرف به هذه النظرية.
خلال الفترة من حزيران (يونيو) 2008 إلى حزيران (يونيو) 2009، تضاعفت الاحتياطيات التي تحتفظ بها البنوك التجارية لدى بنوكها المركزية مرتين في منطقة اليورو، وازدادت بنسبة أكبر حتى من ذلك في بريطانيا والولايات المتحدة، في حين أن الودائع البنكية وإجمالي الأصول البنكية لم يشهدا تغيراً يذكر، وبالتالي انهار المضاعف إلى الصفر. كل ما قامت به البنوك في مجموعها هو امتصاص الاحتياطيات الإضافية فقط عبر السماح لمعدل الاحتياطي إلى الودائع بالتضخم من دون أن تقوم بأية محاولة لاستخدام سيولتها/احتياطياتها الأكبر لتوسعة ميزانياتها العمومية. لماذا؟
ربما كان يبدو أنه رد سلبي محض على عملية ضخ الأموال، لكن أمناء الخزينة في البنوك التجارية ربما قرروا بصورة واعية أن مراكمة الاحتياطيات النقدية الهائلة أفضل من استخدامها بأية طريقة أخرى. ولعل جزءا من ذلك يعود إلى التحوط ضد الاحتياجات المستقبلية غير المعروفة على وجه اليقين، في سبيل تمديد مواعيد استحقاق القروض بالجملة. حين يكون الجو السائد هو التشديد على المتطلبات الرأسمالية للبنوك وتزايد احتمالات العجز عن السداد، تتضح القيود الواقعة على تقديم القروض إلى المقترضين في القطاع الخاص ـ أفضل الشروط التي تصب في مصلحة البنوك.
لكن لماذا لا يتم شراء سندات القطاع العام المأمونة؟ إن تدني العوائد على السندات الحكومية ذات الأجل القصير، التي دُفِعت إلى الأدنى بفعل سياسة التخفيف الكمي، إلى جانب الخطر المتمثل في سعر الفائدة الذي يتعزز نتيجة لتزايد معدلات الدين، ربما يجعلان سندات القطاع العام تبدو أقل جاذبية مقارنة بالعائد المأمون على الودائع المودعة لدى البنك المركزي. ويعتبر هذا شرطاً خاصاً بفخ السيولة المثالي: من هنا يأتي اقتراحي الداعي إلى تطبيق عائد سلبي (فرض رسم) على الودائع التي من هذا القبيل. وربما كان أحد الدروس التي ينبغي تعلمها هو أن العلاقات النسبية بين سعر الفائدة على ودائع البنوك لدى البنك المركزي وعلى القروض التي تؤخذ منه تعطي كل بنك مركزي درجة أخرى من الحرية المفيدة، إضافة إلى سيطرته على أسعار الفائدة الرسمية في الأجل القصير.
ورغم الانهيار الكلي لمضاعف النقود، أعتقد أن التخفيف الكمي لعب دوراً كبيراً في تعافي الأسواق المالية وعودة الثقة. لقد كان حجم الموجودات التي تم شراؤها كبيراً جداً، لدرجة أنه أدى إلى ضخ كميات ضخمة من السيولة، وإلى إعادة موازنة المحافظ على نطاق واسع بين شركات الوساطة المالية من غير البنوك والمشاركين في الأسواق المالية على نطاق أوسع. لقد انخفضت العوائد على السندات بشكل حاد، وكان انخفاضها أكثر في ديون الشركات الأكثر خطراً منه في الدين الحكومي، لأن المبالغ الإضافية التي تدفع جراء ارتفاع المخاطرة تنخفض هي الأخرى. إن الأسهم ترتفع وأسعار الصرف تنخفض في البلدان التي تنفذ سياسة التخفيف الكمي بجرأة أكبر (كالولايات المتحدة وبريطانيا)، مقارنة بالبلدان التي تنفذ سياسة التخفيف الكمي بجرأة أقل (منطقة اليورو واليابان). وبفضل ارتفاع أسعار الأصول وانخفاض العوائد تمكنت الشركات الكبرى، بما فيها البنوك، من إعادة تمويل أنفسها في الأسواق الرأسمالية. ولأن الاستثمار الثابت واستثمار المخزون كانا لا يزالان متدنيين، فقد أصبح بالإمكان سداد القروض البنكية بفضل عمليات جمع الأموال التي من هذا القبيل. ومن المفارقة أن التخفيف الكمي ربما كان من شأنه خفض الإقراض البنكي والتحلل من المديونية.
بالتالي، إذا كان التخفيف الكمي ناجحاً على هذا النحو واحتمال التعافي لا يزال ضعيفاً، فلماذا لا نواصل العمل به؟ يعود بعض السبب في ذلك إلى أنه حيث أن المضاعف المالي ميت منذ فترة، فقد عمل التخفيف الكمي بصورة رئيسية من خلال استعادة الأسعار، والثقة، والمكاسب الرأسمالية في الأسواق المالية، وليس من خلال التأثير المباشر على القدرة على الاستفادة من الائتمان، وعلى قرارات الصرف الخاصة بالشركات الصغيرة والمتوسطة والأسر التي ما زالت تعاني جميعاً من مشاكل حقيقية. وإذا استمرت السلطات في تضخيم الأسواق المالية أكثر من اللازم، ستنشأ بالتدريج فقاعة أخرى في مرحلة من المراحل. في المرة الأخيرة التي انفجرت فيها الفقاعة، غرق دافعو الضرائب واستنفِدت أموالهم. لن تتم العودة إلى آلية الدعم هذه مرة أخرى، لأن دافع الضرائب لا يستطيع أن يكررها ولن يكررها. وينبغي للبنوك المركزية أن تعيد النظر في ميلها إلى توليد فقاعة أخرى من أجل التغلب على آثار الأزمة السابقة. من المؤكد أنه لن يكون بمقدورنا أبداً تحديد التوقيت المناسب تماماً، لكن يبدو أن الوقت الراهن هو فعلاً اللحظة المناسبة لإعلان انتصار سياسة التخفيف الكمي والانسحاب.
الكاتب خبير اقتصادي أول في بنك مورجان ستانلي وعضو سابق في لجنة السياسة النقدية التابعة لبنك إنجلترا في الفترة 1997 ـ 2000.